شهدت أسعار الذهب ارتفاعاً قياسياً خلال تعاملات اليوم، مدفوعة بتزايد التوترات الجيوسياسية وعدم اليقين الاقتصادي العالمي، في ظل مخاوف المستثمرين من تداعيات السياسات الأمريكية وتصاعد النزاعات التجارية. يأتي ذلك وسط اضطرابات في الأسواق المالية وتقلبات حادة في قيمة الدولار الأمريكي، مما دفع المستثمرين للجوء إلى المعدن النفيس باعتباره ملاذاً آمناً.
تصاعد التوترات الجيوسياسية وتأثيرها على الأسواق
أفاد تقرير نشرته مجلة تليجراف اليوم أن دول حلف الناتو تشعر بقلق متزايد إزاء التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول جزيرة جرينلاند. وأشار التقرير إلى أن بعض دول الحلف تدرس إمكانية نشر قوات عسكرية لحماية الجزيرة، في خطوة قد تؤجج التوترات بين الولايات المتحدة وأوروبا.
بالتزامن مع ذلك، يستمر التوتر في الشرق الأوسط، حيث يصرّ ترامب على تنفيذ خطة لترحيل الفلسطينيين إلى دول مجاورة، دون تقديم تفاصيل واضحة حول آليات التنفيذ. هذه التطورات، إلى جانب الحرب التجارية المستمرة بين الولايات المتحدة والصين، تعزز حالة عدم اليقين في الأسواق المالية. وقد فرضت كل من واشنطن وبكين تعريفات جمركية متبادلة، فيما تترقب كل من كندا والمكسيك لمدة 30 يوماً لمعرفة ما إذا كانت ستتعرض لتعريفات إضافية من قبل الإدارة الأمريكية.
ضعف ثقة المستهلك ودعم الذهب كملاذ آمن
وفقاً للبيانات الاقتصادية الصادرة اليوم، تراجعت توقعات ثقة المستهلك بشكل ملحوظ، حيث سجلت 67.3 نقطة مقارنةً بتوقعات عند 70 نقطة، مما يعكس حالة من التشاؤم بشأن الأداء الاقتصادي المستقبلي. وعلى الرغم من بقاء مؤشر الدولار عند مستوى 107.65، إلا أن الإقبال على الذهب ظل قوياً، حيث ارتفعت أسعاره في المعاملات الفورية إلى 2,883 دولار للأوقية، بينما تجاوزت في العقود الآجلة 2,900 دولار للأوقية.
تحذيرات المستثمرين من التقليل من شأن الذهب
يرى العديد من الخبراء أن المستثمرين الذين يراقبون سوق الذهب قد يخطئون في تقدير ديناميكياته إذا اعتبروه مجرد أداة تتأثر بأسعار الفائدة الفيدرالية. تاريخياً، كان رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة يؤدي إلى تراجع جاذبية الذهب لصالح الأصول التي تدر عوائد، نظراً لأن المعدن النفيس لا يقدم فوائد لحامليه. ومع ذلك، تؤكد كاثي كريسكي، الخبيرة الاستراتيجية في صناديق الاستثمار المتداولة للسلع، أن المستثمرين ينجذبون إلى الذهب حالياً بسبب تصاعد المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية، وليس فقط بسبب التوقعات المتعلقة بأسعار الفائدة.
وتضيف كريسكي أن المستثمرين من مختلف المستويات، سواء المخضرمين أو الجدد، بدأوا ينظرون إلى الذهب كأداة لحماية ثرواتهم وسط اضطراب الأسواق. وتصف الذهب بأنه “الملاذ الأمني النهائي”، مشيرةً إلى أن الاضطرابات في أسواق الأسهم، خصوصاً في قطاع التكنولوجيا، دفعت العديد من المستثمرين إلى إعادة تقييم استراتيجياتهم الاستثمارية.
البنوك المركزية تدعم الطلب على الذهب
من بين العوامل التي تدعم أسعار الذهب بشكل قوي، زيادة مشتريات البنوك المركزية للمعدن الأصفر كجزء من استراتيجيات تنويع الاحتياطيات بعيداً عن الدولار الأمريكي. فعلى سبيل المثال، استأنف بنك الصين المركزي شراء الذهب بعد توقف دام ستة أشهر خلال عام 2024، مما يشير إلى استمرار الاتجاه العالمي نحو زيادة الاحتياطيات الذهبية.
ووفقاً لمجلس الذهب العالمي، اشترت البنوك المركزية 1,045 طناً من الذهب خلال العام الماضي، وهو ثالث عام على التوالي تتجاوز فيه مشتريات البنوك المركزية 1,000 طن، ما يعكس تزايد الطلب المؤسسي على الذهب كأصل استراتيجي.
هل الذهب هو التحوط الأمثل ضد التضخم؟
على الرغم من جاذبية الذهب كملاذ آمن، تحذر كريسكي من أن المعدن الأصفر ليس دائماً الخيار الأفضل للتحوط ضد التضخم. وتوصي بدلاً من ذلك بتنويع الاستثمارات عبر محفظة سلع متنوعة تشمل الذهب، إلى جانب قطاعات الطاقة والمعادن والزراعة، لتحقيق حماية متوازنة ضد الاضطرابات الاقتصادية.
“في أعوام 2021 و2022، لم يكن الذهب فعالاً في التحوط ضد التضخم، لكنني أرى أنه سيقود الأداء هذا العام”، تقول كريسكي، مشددة على أهمية اتباع استراتيجية استثمارية متوازنة وعدم الانجراف وراء الأسعار القياسية الحالية.
نظرة مستقبلية وتحذير من الاندفاع نحو الشراء
مع استمرار تصاعد أسعار الذهب وتحقيقه مكاسب تجاوزت 8% منذ بداية عام 2025، بينما لم تحقق الأسهم الأمريكية سوى 2.8% من الارتفاع، يرى بعض الخبراء أن الأسواق قد تكون معرضة لبعض التصحيحات السعرية. وتوصي كريسكي المستثمرين بعدم التسرع في شراء الذهب عند المستويات المرتفعة الحالية، بل انتظار التراجعات السعرية لاقتناص الفرص الاستثمارية بشكل تدريجي.
“يمكن لمحفظتك الاستفادة من نهج استثماري متنوع، ولكن الصبر هو المفتاح، لا تشترِ عند القمم، بل انتظر الانخفاضات واستثمر بشكل متدرج”، تنصح كريسكي، مؤكدة أن الذهب سيظل أحد أهم الأدوات الاستثمارية في ظل حالة عدم اليقين العالمي.
تواصل أسعار الذهب ارتفاعها القياسي مدفوعة بتزايد التوترات الجيوسياسية، وضعف ثقة المستهلك، وارتفاع الطلب من قبل البنوك المركزية. وبينما يبقى الذهب خياراً أساسياً للتحوط ضد الأزمات الاقتصادية، ينصح الخبراء المستثمرين باتباع استراتيجيات مدروسة، والابتعاد عن الشراء عند الأسعار المرتفعة، مع التركيز على تنويع المحفظة لضمان الحماية من تقلبات الأسواق العالمية.